أحياء مكة القديمة.. بساطة الحياة وذكريات الحارة
قبل سنوات تجاوزت عقودها العشرة وقف على مشارف مكة المكرمة مؤرخون عرب ومستشرقون تحدثوا عن مكة المكرمة لا كمدينة مقدسة تهوى إليها أفئدة المسلمين من شتى بقاع العالم، وإنما مدينة جمعت من تراث العالم العربي والإسلامي لتشكل عادات وتقاليد استقاها المكيون خلال تلك الحقبة، فقوافل الحجيج التي كانت تصل إلى مكة المكرمة عبر ميناء جدة كانت اولى إطلالاتها من جنوب مكة، حيث حي المسفلة الذي اتخذ طابعاً معمارياً شبيهاً بطابع سكان المدن الساحلية، وحي الشبيكة نقطة الوصول للقادمين من المدينة المنورة.
حي المسفلة : لقد أوضح المؤرخون الذين تناولوا تاريخ مكة المكرمة أن المسفلة نسبة إلى أسفل مكة المكرمة، وفي هذا الحي يقع وادي إبراهيم عليه السلام، وهو واد تسيل منه مياه الأمطار باتجاه جنوب مكة، وقد ورد اسم هذا الحي في العديد من المصادر الأدبية، من خلال مقهى صالح عبدالحي الذي كان يجتمع فيه العديد من الأدباء الحجازيين، ومنهم معالي الشيخ عبدالعزيز الرفاعي والأستاذ احمد محمد جمال رحمهما الله وغيرهم، حيث كانوا يتناوبون على قراءة الصحف والمجلات المصرية ذات الطابع الأدبي والتي كانت تصل إلى مكة المكرمة متأخرة وبسعر لا يستطيع مثل هؤلاء الأدباء اقتناءها.
ومن الأحياء الصغيرة القريبة والملاصقة لحي المسفلة؛ منطقة قوز النكاسة التي تحدث عنها بعض المؤرخين على أنها منطقة تؤخذ فيها المقوس الرسوم من الحجاج القادمين من اليمن، كذلك منطقة بركة ماجد والتي اختلف في تسميتها ما بين بركة ماجن وبركة ماجل، وكانت متنفسا لأهالي المسفلة ولا زالت اثار هذه البركة موجودة حتى اليوم، فيما حولت البساتين المحيطة بها إلى حديقة عامة اطلع عليها حديقة المسفلة.
وباتجاهنا شمالا صوب المسجد الحرام نجد حي الهجلة والذي كان يطلع عليه سوق الحطب، حيث يتوافد على هذا السوق سكان مكة المكرمة من كافة أحيائها لشراء الحطب الذي يستخدمونه في عمليات الطبخ وتحضير الأطعمة داخل البيوت والمطاعم، وقبل أن نصل إلى أبواب الحرم المكي الشريف نتوقف على بعد أمتار منه لنجد أننا في منطقة يقال لها مسيال الهرساني، والمسيال في اللغة هو مجرى السيل، أما الهرساني فكان شيخ المطوفين بالقرب من هذا المسيال، وهناك زقاق البخارية ونسب إلى البخارية الذين قدموا من بخارى واستوطنوا هذه المنطقة ، كما يوجد في هذا الزقاق منازل لا تتجاوز علوها الطابقين وقد أزيلت ضمن التوسعة التي شهدتها هذه المنطقة وغيرها من المناطق المحيطة بالمسجد الحرام.
السوق الصغير : وكان أهالي مكة المكرمة كبارا وصغارا من سكان المسفلة واجياد والشامية والشبيكة وحارة الباب وغيرها يقصدون منطقة يقال لها السوق الصغير، وان كان المسمى يوحي إلى أن هناك سوقا صغيرا لا تتجاوز محلاته العشرة فان الواقع يقول غير ذلك، فالسوق الصغير يضم باعة البرسيم والحشيش وهما أعلاف للأغنام والدواب المستخدمة في مكة المكرمة، كما في السوق الصغير محلات لبيع التمور بكافة أنواعها، وهي تمور كانت تصل إلى مكة المكرمة من المدينة المنورة في زمن لم يمكن فيه ما يعرف بالاستيراد الخارجي.
والسوق الصغير يقع في منطقة تضم المسفلة والشبيكة والشامية، أي انه يقع على اربع واجهات، فواجهته الشرقية نحو الحرم المكي الشريف، اما واجهته الغربية فهي ناحية الشبيكة وحارة الباب وريع الرسام، وواجهته الشمالية نحو الشامية والفلق والقراره، اما واجهته الجنوبية فان كان جزء منها ناحية المسفلة فهناك جزء منها نحو زقاق البرسيم والذي عرف فيما بعد بزقاق السقيفة.
وزقاق السقيفة او زقاق البرسيم كما كان يعرف سابقا عبارة عن شارع يعرف في التخطيط العمراني الحديث بشارع صغير، وعلى جنباته تقع محلات لبيع المواد النحاسية كالقدور، اضافة الى محلات بيع الاطعمة الباكستانية ومحلات بيع الشنط الحديدية ومحلات الصرافة، وهناك محلات لبيع الرؤوس المندي وبيع الكباب المشوي الذي اسسه "فليفل"، وهذا الزقاق في آخره نجد بسطات لبيع الفواكه وبه يقع مسجد حمزة بن عبدالمطلب جنوبا، اما شرقا فمسجد ابو بكر الصديق.
ونعود الى السوق الصغير لنتوقف امام اشهر بائعي الفول في هذا السوق خلال تلك الحقبة من الزمن وهو الشيخ حمزة منسي رحمة الله ، وعن يمينه محل بيع العصائر الباردة، اما عن يساره فكان محل شهاب بدرة الذي يرى الكثيرون انه من اوائل الذين ادخلوا بيض الكوكو ودجاج البر الى مكة المكرمة، اما النقلي فكان صاحب محل مشهور لبيع المكسرات والحلويات التي كانت تصل من الهند والشام، وامامه نجد اكثر من محل لبيع الاجبان والتي كان يطلق عليها سابقا دكاكين بيع العيش والحلاوة وهي محلات تشبه في وقتنا الحاضر محلات بيع المواد الغذائية.
وان أردنا الدخول الى السوق فقبل ان نتجه لداخلة نجد عن يسارنا الشيخ صالح كعكي الذي كان ينبئ المارة بانه صراف من خلال اصوات الريالات الفضية، وفي اول السوق نجد على يسارنا بائعي البهارات الهندية ولديهم جميع أنواع البهارات المستخدمة في الطبخات المكية .
أحياء أجياد : وان اتجهنا شرق المسجد الحرام فاننا سنرى ثلاثة احياء تشابهت في الاسماء والصفات، فهناك اجياد الكبير، واجياد الصغيرأوالسد،واجياد بئر بليلة التي حذفت منه اجياد ليبقى البئر هوالعلم البارز، كما يقع على يسار المتجه الى ريع بخش واجياد الثلاثة منطقة يقال لها دحلة قريش وكان غالبية سكانها من قبيلة قريش.
حي الشبيكة : اما غرب المسجد الحرام فكان حي الشبيكة هو نقطة الوصول للقادمين من المدينة المنورة، اذ يصلون اولا الى الزاهر فجرول، حيث يقع بئر طوى، وفي جرول كان مصنع كسوة الكعبة المشرفة، ومن جرول نتجه الى حيث ريع الرسام، ويقال ان هذا الريع كان يقطنه رسام للوحات فسمي على اسمه وفي اتجاهنا نحو الحرم المكي الشريف يقع حي حارة الباب، والباب هنا يقال انه باب مكة الذي كان موجودا قبل مئات السنين ويتم اغلاقه ليلا خوفا من اللصوص، وهذه الاحياء سواء كانت الشبيكة او حارة الباب او ريع الرسام اتخذت طابعا مختلفا جزئيا في مبانيها عن تلك التي تتواجد في حي المسفلة، ففي هذه المناطق ظهرت العمارة الشامية والزخارف التركية ولعل لذلك اسباب منها وقوع بستان الشريف عون في حي جرول.
ولم نكن غافلين في الحديث عن ريع ابو لهب، ونحن نتحدث عن الاحياء السابقة لكننا فضلنا الحديث عنه منفردا لكونه منطقة منحدرة لم يكن يقطنها احد فيما مضى وبعدها عن المسجد الحرام وتشكل صعوبه للساكنين اسفل الريع اثناء توجههم الى المسجد الحرام غير ان هذه المنطقة في عصرنا الحاضر ازالت كل تلك المعوقات.
بين الشامية والشعب : وان تحدثنا عن بعض احياء مكة المكرمة من جهاتها الثلاث الشرق والغرب والجنوب فان حديثنا عن شمال المسجد الحرام يوقفنا امام اكثر من حي في هذه المنطقة الصغيرة المساحة ففيها يقع شعب علي، وشعب عامر، وفي هذا الشعب ولد الرسول صلى الله عليه وسلم وبها ايضا حي الشامية وهو من اقدم الاحياء في مكة المكرمة ويقال ان تسميته بالشامية جاء نتيجة لكثرة الحجاج الشوام القاطنين به وبين الشعبين والشامية أحياء متعددة، فان قلنا ان هناك حي الغزة فإننا نقول انه قبلها يقع حي القشاشية وهو حي صغير قد لا يكون له وجود حاليا بعد التوسعات المتعددة بمكة المكرمة، اما حي الغزه فيعتبر سوقا تجاريا لمكة لمكرمة وقاصديها ينافسه في المسمى سوق المدعى، وان كان سوق الغزة ذا طابع بنائي فان سوق المدعه كان ذا طابع شعبي ولعل حادثة حريق المدعى لازالت تسكن في أذهان كبار السن بمكة المكرمة، وهو ما يؤكد ان هذا السوق كان شعبيا ويضم محلات لبيع الأقمشة والأحذية والأواني المنزلية وغيرها من البضائع التي كان يشتريها الحجاج.
اما سوق الصاغة وان كان في زقاق ضيق فانه يقع بين سوقي الغزه والمدعه ولم يكن بائعو الذهب خلال الفترة الماضية يتجاوز عددهم العشرات، وان كنا قد تحدثنا عن السوق الصغير كسوق للخضروات والفواكة واللحوم فان في المدعه هناك سوق يقال له المنشية وهو يماثل السوق الصغير لكل محتوياته.
وقبل ان نختم مسيرتنا في الحديث عن الربط بين الغزه والمدعه فاننا نجد ربطا اخر بين السليمانية والخريق وهما حيان قد يكونان متلاصقين في البناء ولكن لكل منها طريقة فلكي تصل الى الخريق لابد ان تعبر الغزه وتصل الى مسجد الراية وهذا المسجد هو الذي وضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة المكرمة.
خدمات الخريق : والخريق منطقة لم تكن سكنية بقدر ما كانت منطقة خدمات اذ كانت عبارة عن محطة لقدوم الحجاج ومغادرتهم وكان معظم سيارات الأجرة تقف بها وفي هذه المنطقة يقع اليوم مبنى البريد المركزي، وقبل ان نتجه نحو الحجون نعرج قليلا لنجد حي اطلق عليه حي الفلق وقد عجز الكثير من المؤرخين عن تفسير هذا المسمى لكننا نفضل العودة على الجحون حيث بئر غيلمة وقبل الحجون يسارا توجد مقبرة المعلاة وهي من اقدم واكبر المقابر في مكة المكرمة وبها دفنت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
وقد نكون عاجزين عن سرد متكامل لاحياء مكة المكرمة وشعابها خاصة وانها تضم اسماء ارتبطت بها فهناك جبل الشراشف وجبل السبع بنات وجبل عمر وجبل غراب وهي جبال تضم سكانا بها لكن المسميات لم ترتبط بحدث تاريخي اسلامي كجبل النور وجبل ثور وجبل الرحمة لكنها ارتبطت بحدث تاريخي تقليدي يجهله الكثيرون كما يجهلون مسميات دحلة ابو طبنجة ودخلة الولايا ودحلة الرشد.
وان كانت هذه الاسماء غريبة نوعا ما فان الاغرب منها حي الطندوباوي وهو حي يربط مابين الحفائر وشارع المنصور وهذا الحي كان من ابعد الاحياء في مكة المكرمة عن المسجد الحرام وذا طرق جبلية وعرة غير ان الأنفاق والجسور في الفترة الحالية طورت هذا الحي وحسنته كما هو الحال في حوض البقر الذي يعرف اليوم بالعزيزية، وهو من ارقى الاحياء بمكة المكرمة وبه تقع جامعة ام القرى التي كانت في السابق كلية الشريعة ويربط هذا الحي ما بين القادمين من الطائف واولئك القادمين من منى عبر شارع مرتفع يقال له طلعة صدقي ويقال ان صدقي كان احد وجهاء مكة المكرمة.
وان تحدثنا عن القادمين من الطائف وقلنا ان اول حي كان يصادفهم هو حي حوض البقر فان القادمين من جدة اول حي يصادفهم هو ام الجود وقد اختلف البعض في المسمى فمنهم من قال ام الدود ومنهم من قال ام الجود وفي الاصل ام الجود غير ان الحجاج لم يكونوا قادرين على نطق الجيم فتغير المسمى وفي هذا الحي كانت تقع محطة استقبال الحجاج القادمين من جدة بالسيارات بعد ان تم ربط المدن بشبكة الطرق.
وللحقيقة نقول اننا لم نوف مكة المكرمة واحياءها ما كان ينبغي لنا ان نقول خاصة وان مكة المكرمة تضم اليوم اربعة وستين حيا سكنيا تقريبا ولكل منها طابعه الخاص لكن ابناء مكة المكرمة اتفقوا على عادات وتقاليد لم يغيروها منذ قرون مضت ولعل منها عادات الافراح والاحزان.
تراث وثقافة مكة : وان كنا في البداية قد اشرنا الى مقهى صالح عبدالحي كملتقى ثقافي فاننا نجد في أحياء مكة المكرمة ملتقى اجتماعي حيث يجلس عمدة الحي في صدر المجلس كحاكم اداري للحي يامر فينفذ ولا ترد كلمته وتجاب دعوته لدى الكبير والصغير وان كان العمدة في السابق يمثل الحاكم الاداري فانه يمثل ايضا المصلح الاجتماعي والاخصائي النفسي والمحسن الكبير فكان كل عمدة حي على دراية كاملة بسكانه واحوالهم المعيشية والاقتصادية ويسعى بحنكته الى حل الكثير من المشكلات الاجتماعية والاسرية ولم تكن مراكز الشرط في السابق تستقبل الكثير من الحالات اذ كان العمدة هو من يحلها.
ولعل طابع العمارة الاسلامية قد ظهر في مكة المكرمة بشكل كبير تمثل في الرواشين التي تغطي واجهات المباني وهي عبارة عن اخشاب يتم خفرها بابداع فني لتشكل واجهةالمباني وكان اهالي مكة المكرمة يفتخرون بالرواشين التي كانت الى جانب كونها واجهات فهي منفس للنساء ينظرن من خلالها الى الشارع وما يدور فيه دون ان يراهن احد.
المرجع : وائل اللهيبي ، "أحياء مكة القديمة.. بساطة الحياة وذكريات الحارة سكنت «قلوب لاتنسى»" ، جريدة الرياض ، أماكن من الذاكرة ، العدد (14928) ، الجمعه 13 جمادي الأولى 1430هـ - 8 مايو 2009م .